أحاطت الشريعة الإسلامية الأنساب ببالغ الرعاية والعناية، وجعلت المحافظة على النسب من مقاصدها، وشرعت الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع من حيث تشريع الزواج وإثبات النسب وتحريم الزنا.
والبصمة الوراثية هي من القضايا المستحدثة في مواضيع إثبات النسب، ويمكن استخراج حكمها بالنظر إلى كلام الفقهاء في وسائل إثبات النسب وتخريجها على (القيافة) التي قال بها جمهور الفقهاء، والإثبات بطريق (DNA) أولى بالحجية من (القيافة)؛ لاعتماد البصمة الوراثية على أسس علمية واضحة.
جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة (21-26/ 10/ 1422هـ) الموافق (5-10/ 1/ 2002م): “إن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية (التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع) “.
ومما هو معلوم أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية لا يقدم على وسائل الإثبات الأقوى منه كالفِراش؛ فلا يجوز البحث في نسب من كان معروف النسب ومولودًا من فراش صحيح. قال الخطيب الشربيني: “لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره” “مغني المحتاج” (3/ 304).
أما إثبات نسب الولد الناتج من علاقة غير شرعية فغير وارد باتفاق الفقهاء، حتى لو أثبتت فحوصات البصمة الوراثية نسبه إليه؛ لأن الزنا لا يصلح سببًا لثبوت النسب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الوَلَدُ لِلفِراشِ وَلِلعاهِرِ الحَجَرُ) متفق عليه. والمراد بـ(الفِراش): أن تحمل الزوجة من عقد زواج صحيح، فيكون ولدها ابنًا لهذا الزوج، والمراد بـ(العاهر): الزاني.
لكن يجب أن يُنسب ولد الزنا لأمه فقط، فيجب تعريفه بأمه؛ لما بينهما من الحقوق المتبادلة كحق الميراث والحضانة وحرمة المصاهرة وغيرها من الحقوق المترتبة للأم.
والحاصل أن إثبات النسب أو نفيه بالبصمة الوراثية يجب ألا يُقدَّم على القواعد الشرعية ولا وسائل الإثبات الأقوى منه، ولكن يجوز استخدامه في حالات التنازع على مجهولي النسب، أو حالات الاشتباه بين المواليد، أو ضياع الأطفال واختلاطهم، بالإضافة إلى حالات وجود جثث مع تعذر معرفة هويتها.
اعتماد البصمة الوراثية في تحديد النسب للقبيلة يمكن أن يكون مشروعًا، ويمكن أن يكون ممنوعا، وذلك حسب التفصيل الآتي:
أولا:
إذا ثبت النسب للقبيلة بالطرق الشرعية المعتمدة، فلا ينظر إلى نتائج “البصمة الوراثية” ولو خالفت الطرق المشروعة؛ فالنسب في الشريعة الإسلامية له وسائل إثبات معتبرة، وليس النظر مقصورا فيها على واقع الأمر فقط، حتى يقال إن البصمة الوراثية تقطع كل شك، ولذلك فإن الولد من الزنى لا ينسب إلى الزاني شرعًا عند جماهير العلماء مع أن البصمة الوراثية وغيرها تقطع ببنوَّته للزاني، مما يدل على أن وسائل إثبات النسب في الشريعة الإسلامية لم تكتف بالنظر إلى واقع الأمر، وأن هذا الولد قد تَكَوَّن من ماء هذا الرجل، ولذلك فالبصمة الوراثية لا يجوز أن تهدم الطرق المشروعة في الانتساب إلى القبيلة .
فمن اشتهر بالانتساب إلى أصل معين، أو قبيلة معروفة، فلا يجوز الطعن في انتسابه ولو أظهرت نتائج الفحص الوراثي خلاف ذلك.
كما أن مَن ملك البينة على ارتباطه بعشيرة معينة لا يجوز أن ينفى نسبه عنها تبعا لنتيجة البصمة الوراثية، فالشرع يتساهل في إثبات النسب ويتشدد في نفيه، حتى لا يفتح الباب أمام الاتهامات والطعن في الأنساب الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أمر الجاهلية.
قال ابن قدامة رحمه الله:
“النسب يحتاط لإثباته، ويثبت بأدنى دليل، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه “. انتهى من ” المغني ” (6/127).
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
“حيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب، فإنما ذاك إذا لم يقاومه سبب أقوى منه، ولهذا لا يعتبر مع الفراش، بل يحكم بالولد للفراش…. فالشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها؛ ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب: من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان [يعني: الدعوى المجردة عن الدليل والبينة مع إمكان أن يكون هذا الولد للمدعي، كالنظر إلى سنه وسن المدعي]، وظاهر الفراش [يعني أنه تكون المرأة ذات زوج فيثبت نسب ولدها لزوجها] “. انتهى باختصار من ” الطرق الحكمية ” (ص187).
ثانيا:
أما في حالة عدم العلم بنسب شخص معين، وأثبت العلم بالبصمة الوراثية القدرة على معرفة الأنساب البعيدة، والأصول القبلية أو العرقية، فلا حرج من الاستعانة بهذا العلم في هذه الأحوال، والأخذ بنتائجه، كما لجأ جمهور الفقهاء إلى ” القيافة ” وهي إثبات النسب بالشبه.
وقد صدرت قرارات من مجامع فقهية تؤكد على أن الطرق الشرعية لإثبات النسب أو نفيه هي المقدمة على اعتبار البصمة الوراثية، وأن البصمة الوراثية يمكن اعتمادها في إثبات النسب كما يُعتمد الشَّبه (القيافة) وذلك عند التنازع وعدم وجود دليل أقوى.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي، في دورته العشرين عام 2012مـ، قرار رقم 194 (9/ 20) بشأن الإثبات بالقرائن والأمارات (المستجدات)، فكان مما جاء فيه:
“لا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا تقدم على اللعان ” انتهى.
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة 2002مـ،
قرار رقم: 95 (7/16): بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها، حيث جاء فيه:
“ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية”.
ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
رابعًا: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم.
خامسًا: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية [وذكر حالات التنازع ونحوها] ” انتهى.
وفي السياق نفسه نصت المادة السبعون من نظام الأحوال الشخصية السعودي أن:
“للمحكمة في الأحوال الاستثنائية، أو عند التنازع في إثبات نسب الولد، أو بناءً على طلب جهة مختصة، أن تأمر بإجراء فحص الحمض النووي، وذلك وفق القواعد المنظمة لذلك، وعلى المحكمة أن تحكم بما تنتهي إليه نتيجة الفحص، على ألا تصدر المحكمة أمرها إلا بعد التحقق مما يأتي:
- أن يكون الولد مجهول النسب.
- أن يكون فارق السن يحتمل نسبة الولد.”